المقــــــــــــدمة
1/. الشعر الحديث:
1.1. كلام في النشأة والتطور:
لا نستطيع بالضبط أن نعين تاريخا محددا لظهور القصيدة الحديثة في أدبنا العربي، ذلك أن البدايات الأولى التي تكون وراء ظهور الأشكال الأدبية خاصة، والظواهر الثقافية عامة، غالبا ما تكون غامضة ومبهمة. ونظرا لخفاء هذه العوامل، فقد اختلف الدارسون في تحديد اللحظة التاريخية التي حول فيها الشعر العربي مساره في اتجاه الحداثة:
فالموقف الأول يعتبر الشعر المهجري هو من شكل بداية الشعر الحديث، فقد وجد النقاد في أدب "جبران خليل جبران" خصائص عديدة جديدة، مما دفع أدونيس إلى اعتباره "المؤسس لرؤيا الحداثة، والرائد الأول للتعبير عنها". (أدونيس/ الثابت والمتحول/ج،3 ص146).
أما الموقف الثاني فيرى أن البداية كانت في العراق عام 1948م. وهذا ما يبدو أن أكثر الباحثين يتفقون عليه. "فحركة الشعر الحر، أو شعر التفعيلة ظهرت على يد نازك الملائكة وبدر شاكر السياب في العراق، وهي إرهاصات للحداثة الشعرية العربية". (خيرة حمر العين/جدل الحداثة في نقد الشعر العربي/ ص46). أو هي مفتاح لها، إلى أن جاءت حركة مجلة "شعر"، اللبنانية في أواخر عام 1956م لتضخ ماء جديدا في بحيرة الأدب العربي الراكدة، ودما جديدا في جسم الثقافة العربية الجاف، والمتيبس.
1.2. كلام في الأصول والمرجعيات:
لم يتوقف اختلاف النقاد والدارسين للأدب العربي حول مسألة البدايات، بل امتد كذلك إلى الأصول والمرجعيات. فأدونيس، وكمال أبو ديب، مثلا، تعاملا مع الحداثة الشعرية العربية باعتبارها حركة شعرية عربية خالصة، تعود جذورها إلى العصرين الأموي والعباسي، عندما ظهر تيار فني "يهدف إلى الإرتباط بالحياة اليومية، كما عند أبي نواس، وأبي تمام". (أدونيس/ الثابت والمتحول/ص6). وبناء علية فالحداثة الشعرية العربية ليست ابتكارا غربيا، بل عرفها الشعر العربي منذ القرن الثامن، أي قبل بودلير، وملارمه، ورامبو، بحوالي عشرة قرون". (أدونيس/فاتحة لنهايات القرن ص226).
وهناك من النقاد من يذهب إلى أن الحداثة في الأدب العربي المعاصر مفهوم غربي يغترف من الحداثة الأوروبية، وأن الحداثة الغربية هي الأب الروحي لهذه الحداثة العربية التي أخذت كل شيء تقريبا عن الفكر الغربي، فهي نسخة منه. (وليد إبراهيم قصاب/ الحداثة في الشعر العربي المعاصر، ج/2 ص88).
ويبدو أن الأخذ بواحد من هذين الرأيين ـ في نظر بعض الدارسين ـ سيفقد فهمنا للحداثة الشعرية العربية كثيرا من الموضوعية. "لأن في وصلها بالتراث، فقط ، تغييبا لجانب التفاعل بينها وبين واقعها العربي من ناحية، ولجانب تفاعلها مع الآخر من ناحية أخرى". (الإبهام في شعر الحداثة/عبد الرحمان محمد القعود/ ص121).
وإجمالا يمكن القول أن حداثة الشعر العربي ذات مرجعيات ثلاث هي:
الأولى: واقع المجتمع العربي نفسه، بما فيه من تحولات، وتغييرات مستجدة في حقول الإجتماع، والسياسة، والثقافة. فهذا الواقع، أثار لدى الشاعر العربي تساؤلات عدة تهدف إلى خلق أفق للتطلعات تتوخى التغيير في بنية القصيدة العربية لتكون قادرة على استيعاب مستجدات العصر، والتعبير عنها. "لهذا عدت خالدة سعيد هذه الحداثة ثورة فكرية لا مجرد شيء يتصل بالوزن والقافية، أو قصيدة النثر". (مجلة فصول/ أبريل مايو يونيو/1984م/ ص25 )
الثانية: الاتصال بالثقافة الغربية، أو ما اصطلح على تسميته: "المثاقفة" نتيجة لاطلاع الشاعر العربي على الشعر الغربي الذي أبهره بتقنياته الجديدة في الكتابة، أو في أسلوبه ومضامينه الجديدة. كل هذا نبه الشاعر العربي إلى ضرورة تجديد شعره وتحديثه.
الثالثة: العودة إلى التراث وذالك من باب أن الحداثة الشعرية تحققت في العصر العباسين بعامل التحولات السياسية والاجتماعية، والثقافية، فكان لابد للحداثة الشعرية العربية الحديثة أن تحصل كما حدث ذالك في العصر العباسي بسبب هذه المستجدات في الثقافة والحضارة العربيتين.
2. التعريف بالناقد:
أحمد المعداوي، وأحمد المجاطي اسمان لشخص واحد، ولكن الإسم الثاني هو الأكثر شهرة. ولد سنة (1936م) ويعتبر من أبرز شعراء المغرب الذين ساهموا في تأسيس وتطوير القصيدة المغربية الحداثية. فهو إضافة إلى كونه أستاذا باحثا، فهو شاعر حداثي ساهم بقسط وافر قي تأصيل القصيدة الحداثية في ثقافتنا المغربية. يقول: "عندما تعرفت على حركة الشعر الحديث في الأعداد الأولى من مجلة الآداب البيروتية عام (1953م)، لم يكن قد مر على نشوء هذه الحركة أكثر من خمس سنوات، وقد استمر هذا الإتصال بشكل حثيث عن طريق القصائد أولا، أو عن طريق الدواوين وما يكتب حولها". (أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث/ أحمد المعداوي/ ص5). وتميزت محطته الفكرية، والإبداعية، والمهنية بمحطات متميزة نذكر منها:
ـ حصل على الإجازة في الحقوق من كلية الآداب بدمشق.
ـ حصل على دبلوم الدراسات العليا من جامعة محمد الخامس بالرباط ،سنة 1971م، في موضوع: "الشعر الحديث بين النكبة والنكسة".
ـ حصل على الدكتورة في الأدب بالرباط.
ـ فاز بجائزة المغرب الكبرى سنة 1987م.
ـ فاز بجائزة ابن زيدون بديوانه"الفروسية". من المعهد الإسباني العربي للثقافة بمدريد سنة 1985م.
ـ انتخب رئيسا لشعبة اللغة العربية بكلية الآداب بالرباط سنة 1991م.
ـ كان عضوا بارزا في تحرير مجلة أقلام المغربية
ـ كتب مقالات، وقصائد نشرت في جرائد، ومجلات، وطنية، وعربية: مجلة آفاق، العلم، الأهداف، المحرر، المعرفة، مجلة الثورة العراقية، أنفاس، دعوة الحق، مجلة شروق، الآداب اللبنانية.
ـ امتهن التدريس بجامعة محمد بن عبد الله بفاس سنة 1964م.
ـ صدر له ديوان: الفروسية من قبل المجلس القومي للثقافة العربية سنة 1987م.
ـ صدر له كتاب: أزمة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، سنة 1983.
ـ صدر له كتاب: ظاهرة الشعر الحديث، سنة 2007م الطبعة الثانية.
3. دواعي التأليف:
لم يشر الباحث في كتابه: "ظاهرة الشعر الحديث"، إلى الدواعي التي كانت وراء تأليفه له، ولكن كشف عنها في كتابه: "أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث"، ذالك أن الكتابين يصبان في نفس المنحى. يقول في مقدمة الكتاب: "وقد بدا لي أن ما كتب عن هذه الحركة (حركة الشعر الحديث)، حتى ذالك الوقت لا يرقى إلى مستوى إنجازاتها الفعلية بالرغم أن السوق الأدبية عرفت عددا من الكتب التي تناولت هذه الحركة، أو بعض شعرائها بالبحث...بعد ذالك، قررت أن أعود إلى ذالك المتن وما سيكتب بعده من شعر لأقرأه بعيون جديدة. (أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث/ ص6).
ويستشف من خلال هذا القول بأن الباحث لم ترضه الكتابات التي تعرضت لدراسة ظاهرة الشعر الحديث، وقرر أن يعيد قراءته انطلاقا من قناعاته الخاصة، ومن منظور جديد، يختلف عن المنظورات التقليدية التي قرء ت بها هذه الحركة الشعرية الجديدة.
4. دلالة العنوان:
أغلب الدراسات الحديثة تأكد على أن للعنوان أهمية كبيرة، لأنه يساعدنا على وضع تصور أولي عن عالم المؤلف، وفضاءاته. لهذا لا يتم اختيار العنوان بشكل اعتباطي ومتسرع، فأغلب الكتاب يتأنون طويلا قبل أن يتخذوا قراراهم النهائي في مسألة العنوان، فهو مدخل أساسي لقراءة النص وفهمه، كما يحدد جنسه ونوعيته. والعنوان الناجح هو الذي تتوفر فيه الشروط التالية:
ملائمة العنوان لمحتواه: ذالك، لأنه يختزل مضامين المؤلف، وتوجهاته، ورؤاه الفكرية.
التشويق: فهو أول ما تقع عليه عين المتلقي، فإما أن يستدعيه لقراءة الكتاب، أو ينفره منه.
عنصر الإيحاء: فالعنوان الناجح هو الذي يضع المتلقي في مناخ نفسي، وعاطفي، وفكري، قادر على كسب اهتمام القارئ، وتحفيزه لقراءته.
وعموما فإن المجاطي اختار عنوانا تركيبيا، مكون من ثلاث مفردات:
أ ـ ظاهرة: اختلف مفهوم الظاهرة، وتنوعت دلالاته حسب الحقول المعرفية التي تستعمله. ففي المجال الأدبي، وهو الذي يهمنا، تطلق لفظة الظاهرة على الإنجازات المتميزة في حقل الثقافة.
ب ـ الشعر: استعملت كلمة "شعر" من الناحية اللغوية، بمعنى عَلمَ، وفطَنَ. أما من الناحية الاصطلاحية، فقد اختلفت مفاهيم الشعر باختلاف العصور، والثقافات، والمدارس الأدبية، والشعراء...قال ابن منظور: "سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره". (ابن منظور/ لسان العرب/ج/3 /ص323/ ع2). وقديما قيل: "الشعر ديوان العرب"، لأنه كان يتضمن أخبارهم، وحروبهم، وأيامهم، وحفظ أنسابهم. إنه سجل تاريخي صحيح وموثق، "تقبل شهادته، وتتمثل إرادته". (ابن رشيق/ العمدة،ج/1 ص 16). أما المنظورات الحديثة، فقد كادت أن تجمع في إطار مفهومها للشعر باعتباره، "رؤيا". يقول أدونيس: "لعل خير ما نعرف به الشعر الجديد هو رؤيا". (أدونيس/ زمن الشعر، ص9).
والشعر العربي، وهو يقطع مساره الطويل الذي يناهز سبعة عشر قرنا، مر بتطورات كثيرة، وتغيرت مضامينه وأشكاله بتغير العوامل التاريخية المحيطة به. ويمكن إيجاز هذا المسار فيما يلي:
الشعر العمودي: وما يميزه هو نظام الشطرين المتوازيين، والبحر الشعري الموحد.
الشعر الحر: خرج عن مقاييس الشعر القديم، فاستحدث موضوعات مبتكرة، وإيقاعات جديدة.
الشعر المرسل: ويعرف بأنه الشعر الموزون، ولكن بدون قافية ملزمة.
الشعر المنثور: هو شكل جديد، يتميز عن بقية الأشكال الأخرى بكونه لا يخضع لإيقاع موسيقي جاهز، وإنما موسيقاه تنبعث من داخله، تسعى أن تشكل نفسها من خلال الكل الشعري: الصورة الشعرية، الأخيلة، اللغة، الصياغة....
ج ـ الحديث: الحديث لغة هو كل شيء لم يكن، ثم كان، فالحديث ضد القديم. وهناك تسميات أخرى سميت بها الحركة الشعرية العربية المعاصرة، منها: الشعر التفعيلي، والشعر المنطلق أو الطليق، الشعر الحر، الشعر الحديث، الشعر المعاصر، شعر الحداثة، شعر الحساسية الجديدة.. ولكن لماذا اختار المجاطي مصطلح الحديث بدلا عن غيره من المصطلحات الأخرى؟ ويرد المجاطي قائلا: "هناك عدة اقتراحات لتسمية هذه الحركة الشعرية منها اقتراح الشاعر عبد الصبور لتسميتها بالشعر التفعيلي، وهي تسمية غير دقيقة لأنها تستند إلى جانب شكلي، بل إلى جانب جزئي من الشكل وهو الوزن، وهناك اقتراح آخر يفضل
تسميتها بالشعر المنطلق، ويؤخذ عليه أن مفهوم الإنطلاق قد يعني التحرر من كل قيد، كما أن مفهوم الحرية في قولهم الشعر الحر، قد يعني التحرر من أي التزام، ومن أجل ذالك آثرنا استعمال مصطلح الشعر الحديث تمييزا لهذه الحركة عن التيارات الشعرية الجديدة الأخرى، كتيار أبولو، وتيار المهجر وغيرهما.." (احمد المعداوي المجاطي/ ظاهرة الشعر الحديث، م.س، ص56).
5. نوعية المؤلف:
المؤلف كتاب ينتمي إلى جنس أدبي هو النقد. والنقد فعالية فكرية، ونشاط ذهني وروحي وفكري، موضوع اشتغاله
هي النصوص الأدبية بأجناسها المختلفة، كالقصة والرواية والمسرحية والقصيدة..والناقد كذالك وسيط بينه وبين المبدع، فهو من يشرح الغامض، ويفسر المنغلق، و يؤول الدلالة/ المعاني. وهو كذالك المؤهل للحكم على النصوص الأدبية، بالجمال أو القبح، بالوضوح أو الغموض، بالجدة أو القدم... باختصار فإن للناقد دور خطير لأنه ذو تأثير كبير في تحبيب، وترسيخ القيم التي تبشر بها الأعمال الأدبية لدى الجمهور أو الأفراد، أو العكس. ولكي يؤدي الناقد وظيفته على أحسن وجه فإنه يستعين بمعطيات تمده بها العلوم الإنسانية، أو الطبيعية، ولم لا، السعي إلى وضع قواعد ومقاييس تجعل النقد علما دقيقا، نقدا لا يخضع لذات الناقد المزاجية.
6. دلالة الصورة:
تشكل الصورة عتبة تضاف إلى بقية العتبات الأخرى، تساعدنا على وضع تصور أولي عن الكتاب، خصوصا وأنه في عصرنا هذا لا يكاد يخلوا كتاب من صورة فوتوغرافية، أو تشكيلية، وهذا يدفعا إلى طرح تساؤلات تتعلق بمضمون اللوحة، الإرسالية التي تود الصورة تبليغها، وعلاقتها بمضامين الكتاب..والصورة، تماما كالعنوان، لها وظيفة تشويقية، وتسويقية، تسعى إلى جذب اهتمام القارئ لتوريطه في قراءة المؤلف.
والصورة التي اختيرت لغلاف الكتاب لوحة تشكيلية، للفنان المغربي المصطفى السنوسي، وهي مأخوذة بدورها من كتاب:regard sur la peinture contemporaine au Maroc (Alain/flamant)
" نظرة عن الفن التشكيلي في المغرب.
فالصورة/اللوحة تتشكل من منظرين:
الأول: يظهر جانبا من الشمس في حالة حركية دائبة، تقذف حروفا وكلمات مكتوبة بالخط العربي التقليدي في فضاء مفتوح، ويمكننا قراءة بعض الكلمات مثل: ( بسم ـ كم ).
الثاني: حروف عربية تقذف في الفضاء مختلفة الألوان، والأشكال. فما دلالة ذالك؟
أـ الشمس رمز الحياة، والبعث المتجدد، فقد عبدها الفراعنة، وبنوا لها معابد تعبد فيها، ويسمونه الإله: "رع"، وهو في صراع دائم مع قوى الشر والظلام، ولكنه يخرج دائما منتصرا، يزهو بنصره في كل شروق، فيقيمون الطقوس لاستقباله. كما عبده البابليون وسموه الإله: "شمش". ولاشك أنها تلائم في رمزيتها موضوع الكتاب الذي طرح فيه الناقد مسالة الولادة والتجدد والبعث التي شغلت حيزا هاما من تجارب شعراء الحداثة العربية.
ب ـ الحروف العربة بألوانها المختلفة، تنوعت ما بين السين والهاء والهمزة والألف، أما شكلها فيميل إلى الخط الكوفي القديم. و من غير المستبعد أن يرمز للحضارة العربية الإسلامية. وقدمت بأشكال زاهية مما يعكس النظرة التفاؤلية التي توحي بها اللوحة، والأمل في مستقبل مشرق.
7. وصف الكتاب:
يتكون الكتاب من 271ص، وهو مقسم إلى أربعة فصول، وكل فصل يتفرع إلى مجموعة من الأقسام. وجاء توزيع مضامين المؤلف على الشكل التالي:
الفصل الأول: من (ص5 إلى ص53 ): التطور التدريجي في الشعر الحديث.
وقسمه إلى قسمين:
الأول: تحت عنوان نحو مضمون ذاتي، تطرق إلى تيارين: الإحيائي، والذاتي، وتناول ضمن هذا التيار الأخير: جماعة الديوان، وتيار الرابطة القلمية، وجماعة أبولو.
الثاني: خصه للحديث عن الشكل الجديد في الشعر العربي الحديث.
الفصل الثاني: من ص55 إلى ص105: تجربة الغربة والضياع. بحث في هذا المحور عن أشكال الغربة والضياع في الشعر الحديث، والتي تمثلت في: الغربة في الكون، والمدينة، والحب، والكلمة، إضافة إلى الغربة في المكان، والزمان، والعجز، والحياة، والموت، والصمت.
الفصل الثالث: من ص107 إلى ص190: تجربة الحياة والموت، تناولها عند كل من أحمد سعيد أدونيس، وخليل حاوي، وعبد الوهاب البياتي، الذي استقصى العديد من المواضع في تجربته الشعرية: كمنحى الأمل، والإنتظار، وخط الموت، والحياة، والإستفهام، والرجاء، والتمني، والشك.
الفصل الرابع: من ص195 إلى ص256: الشكل الجديد. تناول فيه مجموعة من المحاور، وهي: تطور اللغة في الشعر الحديث، والنفس التقليدي في هذه اللغة، والبعد عن لغة الحديث اليومي، والسياق الدرامي للغة الشعر الحديث، والتعبير بالصورة في هذا الشعر، وتطور أسسه الموسيقية، وفي هذا الإطار تحدث مسألة الزحاف، وتنويع الأضرب، والتدوير، ونظام القافية أما الخاتمة فخصصها للإجابة على مسألة الغموض، وتبريرها.
ـ 2 ـ
تحليــــل الكتــــــاب
(جرد القضايا والموضوعات)
الفصل الأول: التطور التدريجي في الشعر الحديث:
القضية الأولى: الشعر العربي بين التطور، والتطور التدريجي.
في هذا السياق أشار الباحث إلى أنه بالفعل حدثت حركية مهمة في الحركة الشعرية العربية، وأرجعها إلى سببين اثنين:
الأول: الإحتكاك الذي حصل بين الثقافة العربية، والثقافات الأجنبية الأخرى (يقصد الثقافة الغربية)
الثاني: توفر مناخ من الحرية، فتح المجال أمام الشعراء للتعبير عن تجاربهم.
وأشار إلى أن هذه الحرية التي ينعم بها الشاعر الحديث، هي نفسها التي كان يتنفس فيها الشاعر العباسي: كالمتنبي، وأبي تمام، وأبي نواس.. وشعراء الأندلس (الموشحات).
وكان الهدف المتوخى عند الشعراء قديما وحديثا هو العودة إلى التجربة الذاتية باعتبارها أساس التجربة الشعرية، ورافدها الأساسي.
القضية الثانية: علاقة الشعر بالنقد.
يعتقد الباحث أن العلاقة بين الشاعر والناقد يحكمها التعقيد، ذالك أن الناقد، في العصور القديمة (العصر العباسي)، يستند في أحكامه على النص الشعري بمعايير، ومرجعيات تقليدية، فالعصر الجاهلي يمثل قمة الشعر العربي، ومن هذا الشعر استنبط ما يسمى ب:"عمود الشعر"، وهو القيد الذي عطل الكثير من المواهب الشعرية، واعتبر الحرية الأساس الذي تقوم عليه كل تجربة شعرية جديدة.
القضية الثالثة: خصوصية التجربة الشعرية الحديثة.
لاحظ الكاتب أن هناك ما يميز حركة الشعر الحديث العربية، عن الحركات التجديدية السابقة لها في العصر العباسي، وفي الأندلس. ويرى أن المناخ الذي ولدت فيه هذه الحركة، كان متزامنا مع نكبة فلسطين. وحدد الأشكال التي ظهرت بها هذه الحركة في شكلين:
الأول: حركة شعرية واجهت الواقع التقليدي العربي المتماسك، فكانت حركة بطيئة جدا(جماعة الديوان ـ تيار الرابطة القلمية ـ جماعة أبولو ).
الثاني: حركة واجهت المجتمع العربي بعد أن تفككت بنياته، وفقد تماسكه، فجاء تيار التجديد قويا وعنيفا وجارفا.
ولكي يوضح أكثر هذه الأفكار، أو القضايا، أو الفرضيات التي طرحها في مقدمة كتابه، فقد عمد إلى تقسم الفصل إلى قسمين:
القسم الأول: سيدرس فيه التحولات/ الموضوعات الجديدة التي تسللت إلى مضامين القصيدة الحداثية.
القسم الثاني: سيدرس فيه قضية الشكل كما طرحته هذه التيارات وما قام حوله من خصومات ونقد.
القســـــــم الأول
الحركة الإحيائية
من أهم خصائصها، محاكاة القدامى، والسير على خطاهم، والنسج على منوالهم. وأهم هذه الحركات:
1 ـ التيار الإحيائي: (ويسمى كذالك المدرسة الكلاسيكية، التيار المحافظ، التيار التقليدي).
وكان من أهداف هذا التيار تنظيف القصيدة العربية من كل العوالق التي شوهت معالمها الجمالية طيلة فترة عصر الإنحطاط وبالتالي العودة بها إلى منابعها الصافي عند شعراء العصر العباسي، وشعراء الأندلس، وذالك باقتفاء أثرهم، في المعاني، والأفكار. وأرجع الباحث الأسباب كون أغلب شعراء هذا التيار لم يتصلوا بالثقافة الأجنبية، مما جعل تأثرهم بها ضئيلا، وأورد اسم البارودي كأحد ممثلي هذا الاتجاه.
2 ـ التيار الذاتي:
كان البحث عن الذات الفردية لدى الشاعر الإحيائي من أهم العوامل التي عمات على تغيير مسار الشعر العربي، وتجنيبه البقاء رهينة للقدماء. وتبلور هذا الإتجاه عند التيارات الشعرية التالية:
2/1 ـ جماعة الديوان:
تشكلت من زمرة من الشعراء الذين أخذوا على عاتقهم التبشير بقيم جديدة، تتماشى والتطورات التي عرفها المجتمع المصري بعد ظهور الطبقة البورجوازية على مسرح الأحداث. ويمثل هذا التيار كل من: عبد الرحمان شكري، عباس محمود العقاد، إبراهيم عبد القادر المازيني. انطلق هؤلاء من فكرة مفادها: "الشعر وجدان". ثم اختلفوا في تفسير دلالته:
ـ شكري فهمه على أنه التأمل في أعناق الذات.
ـ المازيني رآه في كل ما تفيض به النفس من شعور وعواطف وإحساسات.
ـ العقاد اعتبره مزاجا من الفكر والشعور.
وانتهى أحد أقطاب هذه الجماعة إلى القول أن الشاعر إذا لم تعرف حياته من ديوانه فما هو بشاعر ولو كان له عشرات الدواوين.
وأرجع الباحث إيمان جماعة أبولو بقيمة العنصر الذاتي إلى عاملين:
الأول: شخصية الفرد المصري التي تعاني من انهيار تام على مختلف الأصعدة مما تطلب منه رد الإعتبار إلى ذاته
الثاني: تشبع رواد أبولو بالفكر الحر، الذي بسط ظله على العقل الغربي في تلك الفترة من تاريخ الأمة العربية.
2/2 ـ تيار الرابطة القلمية:
تأسست هذه الرابطة من أدباء وشعراء جمعتهم الغربة والبعد عن الأوطان. كان ذالك في أمريكا. وانطلق أقطاب هذا التيار ـ ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران ـ من مفهوم موحد للشعر باعتباره "وجدان"، ولكنه وجدان لا يقف عند حدود الذات، بل يتجاوزها ليشمل الحياة والكون. لقد آمنوا بوجود علاقة خفية تربط الفرد بالكون، وتقربه من الذات الإلهية. ولاحظ الباحث أن أقوال هؤلاء الشعراء تتناقض مع أفعالهم، ذالك أن أغلبهم هربوا من الناس، ومن الواقع، ومن الحضارة، وغنوا أحلامهم للغاب، والخلاء، حيث ـ من وجهة نظرهم ـ الصفاء، والنقاء:
ـ جبران هرب إلى الطبيعة يناجيها ويبث لها أحلامه.
ـ ميخائيل نعيمة هرب إلى ذاته يتأملها.
ـ إيليا أبو ماض اعتصم بالخيال.
وينتهي الباحث إلى خلاصة مؤداها أن ما في شعر هؤلاء من هيام بالطبيعة، والحنين إلى الصبا، واللهو في سوريا، وفي لبنان، ليس سوى لون من ألوان الهروب التي يلجأ إليها الشاعر الوجداني عندما يحتمي بذاته الفردية كشكل من أشكال المواساة، وتعويض عن قطعه الصلة بينه وبين الحياة.
3/3ـ جماعة أبولو:
اعتُبر أحمد زكي أبو شادي بمثابة الأب الروحي لهذه الجماعة التي تأسست سنة 1932م. وانطلقت من اعتبار ذات الشاعر هي المصدر الرئيسي لكل ما ينتجه من شعر. ومن أقطاب هذه الجماعة، وما تفرد به كل واحد منهما، وميز شعره ذكر الباحث:
ـ إبراهيم ناجي: دار أغلب شعره حول المرأة، والحب.
ـ أبو القاسم الشابي: هام بالجمال، وعشق الحرية.
ـ عبد المعطي الهمشري: ولع بالطبيعة، واستشراف ما وراء الحياة، من خلال الحياة.
ـ علي محمود طه: شعره حافل بمظاهر البهجة والمسرة، منغمس في متع الدنيا، وملذاتها.
ـ أحمد زكي أبو شادي: كان حتى في شعره الموضوعي ذاتيا.
القسم الثانـــــــــــــي
نحو شكل جديد
فرضت المضامين الجديدة التي نحت منحى جديدا على الشاعر العربي الحديث إعادة النظر في الموروث الشكلي للشعر العربي، فكان لزاما عليه أن يتوسل للتعبير عن تجربته الذاتية، بأشكال مختلفة من الصيغ التعبيرية، والصور الفنية، والإيقاعات الموسيقية. وترتب على ذالك أن جاءت القصيدة الوجدانية، أكثر يسرا وسهولة من القصيدة الإحيائية المتأثرة بالتراث القديم كما نلمسه في القاموس الشعري لدى محمود سامي البارودي المثقل بمفردات البيئة الصحراوية البدوية: (القطا ـ الكاسرات ـ الذئاب ـ أسماء النباتات ...).
القصيدة الحداثية أصبحت أكثر قربا من الحديث اليومي للناس، وتجلت هذه الظاهرة أكثر في اللغة، عند كل من عباس محمود العقاد، في ديوانه: "عابر سبيل". وفي شعر إيليا أبو ماض. كما أن الشاعر الحديث وظف الصور البيانية بربطها بتجربته الشعرية ربطا وثيقا لشرح عواطفه، وبيان حاله، كما عند إبراهيم ناجي في ديوانه: "ديوان ناجي"، وليست مجرد وسائل للزينة. كما أن القافية لم تعد فقط وقفة عروضية شكلية، وإنما ارتبطت بأفكار الشاعر، وعواطفه. وينبهنا الباحث أن هذه المكتسبات لم تتحقق إلا لقلة من الشعراء المتميزين.
ومع ذالك فقد ظلت المحاولات التجديدية محتشمة، ومحبوسة في حيز ضيق، ويرجع الأسباب إلى الحملة العنيفة التي شنها النقاد المحافظون على هذه الحركة. فهم ينطلقون من مفهوم محدد للغة باعتبارها موجود مقدس، وأي مساس بها يعتبر مساسا بالمقدس، ومن هؤلاء النقاد: مصطفى صادق الرافعي، طه حسين، وكذالك العقاد الذي تحامل على لغة الحركة التجديدية في بعض مقالاته، وإن تراجع/ارتد عن آراءه في آخر المطاف. ويكمن السر في تراجع هؤلاء النقاد عن مواقفهم أنهم لم يعثروا على حجج قوية تقف في وجه التطور والتجديد.
وتحامل النقاد المحافظون أيضا على التجارب الشعرية التي مزجت بين الأوزان المختلفة في قصيدة واحدة، الشيء الذي لا تستسيغه الأذن التي تعودت على سماع الشعر التقليدي، كما فعل إيليا أبو ماض في قصيدته: "المجنون"، التي هاجمها طه حسين، واعتبرها ضرب من الجنون.
لقد حققت حملة المحافظين غاياتها، وأثرت كثيرا في مسار الحركة التجديدية، فتراجع بعض الشعراء عن طموحاتهم التجديدية، في حين توقف البعض نهائيا عن نظم الشعر كما فعل صالح جودت بعد صدور ديوانه الأول، حيث قال: "عزيز علي والله أن أودع الشعر، وأسكب آخر قطراته من قلبي، وأقف موقف الجندي الذي يطمع في الإنتصار، فيلقي السلاح، وينتحر". (مجلة أبولو/ المجلد الثاني ص269).
وانتهت هذه التيارات التجديدية نهاية محزنة ـ على حد تعبير الباحث ـ فالمضمون بقي مرتبطا بنغمة الكآبة، والأنين، والتوجع، والشكوى. كما أن الشكل فشل في الوصول إلى صورة تعبيرية ذات مقومات مكتملة، وناضجة، وذالك بسبب تحامل المحافظين عليها، هذا التيار المحافظ هو من سيتراجع، ويستسلم بعد هزيمة 1948م، وانتصار الكيان الصهيوني. ومع ذالك فقد عاود الشعر العربي محاولة التجديد متسلحا بالحرية التي أصبح الشاعر الحديث يمتلكها، ليخوض تجربة أخرى رائدة برؤية قوامها: الإيمان بالإنسان والمجتمع.
الفصـــل الثانــــــــــــي
تجربة الغربة والضياع
1. حركة الشعر الحديث تجربة الغربة والضياع:
التمهيـــــــــــد:
تحدث الباحث العوامل التاريخية، والسياسية التي أدت إلى خلخلة المنظومة الإجتماعية، والفكرية التقليدية السائدة بعد هزيمة الجيوش العربية سنة 1948م، وما رافق ذالك من إعادة مساءلة البُنى الثقافية التي كانت مهيمنة على العقلية العربية، هذه العقلية التي انفتحت في جزء منها على التيارات الفكرية الغربية، كالفلسفة، الأدب، النقد.. فراحت تبحث عن الأجوبة وراء الهزيمة، وبالأخص الشاعر الذي كان وقع الهزيمة قاسيا عليه، وآمن أن الخلاص ( التقدم والتحضر)، يكمن في الإلمام بكل أنواع المعارف الإنسانية. وإذا ما تتبعنا الروافد التي استقى منه الشاعر الحديث ثقافته وجدناه متنوعة المشارب:
1.1ـ روافد ثقافية معرفية: الفلسفة، علم النفس، التاريخ...
2.1 ـ روافد شرقية روحية: الديانات الهندية، الدينات الفرسية، وتأثروا بالشاعر الهندي طاغور، والشعر الصوفي، عند جلال الدين الرومي، والجامي...
3.1 ـ روافد شعرية التزمت بقضايا الإنسان: أوودن، نيرودا، إيلوار..
4.1 ـ الثقافة الشعبية: سيرة عنترة، أبي زيد الهلالي، سيف بن ذي يزن، ألف ليلة وليلة..
5.5 ـ التراث (الشعر العربي القديم، والقرآن): استمد منهما المهارات اللغوية.
تفاعل الشاعر الحديث مع كل هذه الروافد، ونجح في المزج بينها، فخرج برؤية جديدة للشعر. يقول أدونيس: "الإبداع الشعري وسيلة لاكتشاف الإنسان، والعالم، وأنه فعالية جوهرية تتصل بوضع الإنسان ومستقبله إلى المدى الأقصى". (أدونيس/ تجربتي في الشعر، مجلة الآداب، مارس 1962م، ص196).
2. علاقة الشكل بالمضمون:
إن المضامين الجديدة التي دخلت الشعر العربي الحديث، جعلت من هذه التجربة تتسم بالخصوبة، والتفرد، فكريا وشعوريا، فكان لزاما عليها أن تفجر الشكل القديم الذي لم يعد يلاءم لتجربتهم الشعرية، بل يحد من انطلاقتها، وبعد محاولات، وتجارب عدة انتهى شعراء الحداثة إلى شكل جديد يقوم على أساس موسيقى هو: التفعيلة، واستقر هذا الشكل عند كل من بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور. واعتبر الباحث أن الشكل تابع للمضمون، ذالك أن المضامين الخصبة و المتطور في الشعر هي وحدها القادرة على على تحقيق الوسائل الفنية الجديدة، وتبرير وجودها. وتتبع الباحث أهم المضامين الجديدة التي ارتبطت بالحركة الشعرية الحديثة، وحددها في اتجاهين:
الأول: تجربة الضياع والغربة:
حصر الباحث أسباب هذه الظاهرة الملفتة للإنتباه في الشعر الحديث في:
أ ـ التأثر ببعض شعراء الغرب، مثل: توماس إليوت، خصوصا في قصيدته الأرض الخراب.
ب ـ أعمال بعض الروائيين الجدد مثل: جان بول سارتر، ألبير كامو. والنقاد الذين ترجمت أعمالهم إلى اللغة العربية، مثل: كوين، وويلسن.
ج ـ العامل المعرفي، فاصطدام الأفكار المثالية بالواقع، تنعكس على النفس، فتصاب بالإحباط، والإنكسار
وأهم ممثلي هذه التجربة: أدونيس، وصلاح عبد الصبور، وعبد المعطي حجازي.
كما تتبع الباحث المظاهر التي تجلت فيها ألوان الغربة، والتي تمثلت في:
أ ـ الغربة في الكون:
هي نتاج نكبة فلسطين، وضياع أمجاد التاريخ، والشعور بالذل، والمهانة، فاعتزل الشاعر الحياة، وجرب وحدته، وغرق في غربته. ظهر هذا في شعر صلاح عبد الصبور، وأدونيس، ويوسف الخال....
ب ـ الغربة في المدينة:
أحس الشاعر العربي الحديث أن هندسة، وواقع مدينته قد تغير وإلى الأبد، بفعل غزو المدن الأوروبية لها، وأصبحت لا تناسب واقع العرب المهزوم، فجاء شعره تعبيرا عن هذا الإحساس بالغربة، فالمدينة قاسية، ومفرغة من كل إنسانية، وما يزيدها قسوة وعنفا عدم قدرة الشاعر على الهروب منها، فهي تحاصره، وتخنقه. عبر عن هذا كل من: أحمد عبد المعطي حجازي، بدر شاكر السياب...
ج ـ الغربة في الحب:
يرى الباحث أن الشاعر الحديث فشل في خلق علاقة حميمة مع المرأة، فالحب تحول إلى مرارة مميتة، فلا وجود لامرأة تحقق للشاعر ذاته، وتعيد له توازنه المنشود. وتمثل هذا الفشل المريع في أشعار خليل حاوي، والسياب، وصلاح عبد الصبور. ألم يقل عبد المعطي حجازي: "إن وقت الحب قد فات".(قصيدة نهاية، من ديوان: "لم يتبق إلا الإعتراف، ط/1، ص75 ـ 76).
د ـ الغربة في الكلمة:
إيمان الشاعر الحديث بأن الكلمة بمقدورها أن تغير، واكتشافه للحقيقة المرة، وهي أن الكلمة عاجزة على الفعل والحركة، ولن تستطيع تلبية طموحاته، جعلت يدخل حالة من اليأس قادته إلى الإغتراب، كما هو الحال عند صلاح عبد الصبور، وعبد الباسط الصوفي..
ذ ـ ومن خلال تحليله لقصيدة: "فارس النحاس"، لعبد الوهاب البياتي اكتشف الباحث ألوان أخرى من الغربة: (ديوان سفر الفقر والثورة، ص41)، وهي كالتالي:
أ ـ الغربة في المكان: الإدمان على التنقل والسفر، لعل الشاعر يجد ذاته.
ب ـ الغربة في الزمان: عجزه على التواصل مع الماضي، أو المستقبل.
ج ـ إحساسه بالعجز: لا يملك الإمكانيات ولا القدرة على خوض غمار الحياة.
ح ـ تشبثه بالحياة: فهو عاجز على نيل شرف الشهادة.
خ ـ الشعور بالموت: عجزه على الكشف عن تناقضات واقعه.
ذ ـ الإحتماء بالصمت: لم يتبق له غير الصمت يلوذ به ما دامت الكلمة عاجزة عن إحداث التغيير المنشود.
كل هذا يكشف عن التمزق النفسي والوجداني للشاعر الحداثي، والتمزق الروحي للإنسان العربي.
الفصـــــل الثالـــــــــث
تجربة الحياة والموت
كانت لهزيمة 1948م، ونكبة فلسطين، والحركات والتغييرات الهائلة التي عرفها المجتمع العربي أثره الكبير في تشكيل رؤية الشاعر العربي والتي طبعها اليأس، والضياع، والقلق، والإحساس بالغربة، التي أثمرت تجربة الموت. إلا أنه وسط هذا الدمار الشامل، والإحساس بالاانتماء، لم يفقد الشاعر الحداثي الأمل في المستقبل، فظل يحلم بالتجديد، والبعث: بعث المجتمع العربي من موته.
هكذا تراوحت تجربة الشاعر الحديث بين الأمل، واليأس. لم يستسلم للواقع المهزوم، بل كان إيمانه بالبعث، لا تفارق فكره وإحساسه، وانتهى بعد صراع طويل مع ذاته إلى تبني نظرة أكثر واقعية، وارتهنت تجربته الشعرية بمدى إيمانه بجدلية الحياة والموت.
فالشاعر الحديث يؤمن بأن "عظمة الشاعر وقوته، تكمنان في قدرته على تحمل النبذ، والغربة، والوحشة، والصمت، في عالم حكمت عليه فيه الآلهة بهذا العذاب، لأنه سرق منها النار الإلهية لإخوته البشر". (عبد الوهاب البياتي، تجربتي الشعرية، 1868م، ص47).
أما أدونيس، فآمن بأن "الإنسان هو جدال بين حياته، وموته، بين بدايته، ونهايته، بين ما هو، وما سيكون". (أدونيس، تجربتي الشعرية، 1966م، ص196 )، هذه الجدلية هي التي من شأنها أن تخلق الشاعر الثوري، وهي الثورة المطلقة، ليست محددة بزمان أو مكان.